إن الغرض الأول للإسلام هو تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فما كان من المنطقي أن يستبعد المحاماة ذالك أن مهمتها السامية دفع الظلم عن الناس، ومساعدة قليل المحاججة في إقرار برائته أمام الخصم المحاجج الذي يمتلك فن الإلقاء، بل أجازت الشريعة الإسلامية المحاماة أو الدفاع في الخصومة تحت مسمى (الوكالة بالخصومة). فبالرجوع لأقوال كبار العلماء المسلمين الأصـولـيـون المحدثون بالتواتر، نجدها تكاد تجزم بأن الوكالة على الخصومة هي نواة المحاماة، وقد صرحوا بهذا، ففي الفهرس الهجائي لكتاب المغني لإبن قدامة (541 هـ)، الذي وضعه الدكتور محمد سليمان الأشقر نجد لفظة (المحاماة)، التي إستعملها بدل الوكالة بالخصومة في النسخة الأصلية.
ويقول الدكتور محمد مصطفى الزحيلي ” يعتبر التشريع الوضعي المحامين من المساعدين القضائيين، ولكن الفقهاء بحثـوا المحاماة تحت عنوان الوكالة في الخصومة”.
وعليه فالإسلام أَبَاحَ الوكالة في الخصومة وإعتبرها مشروعة، وهذا يعد دليلا على مشروعية المحاماة كذالك، ذالك أن الوكالة على الخصومة والمحاماة هما وجهان لعملة واحدة، فالوكالة مقيس على المحاماة في الفقه، وهذه الأخيرة في جوهرها توكيل وما شاع بين الفقهاء في الإسلام هو الوكالة بينما مصطلح المحاماة وليد العصر الحديث .
وقد استدل الفقه على مشروعية المحاماة، بمجموعة من الأدلة منها ماورد في الكتاب (الفقرة الأولى)، والسنة (الفقرة الثانية)، والإجماع (الفقرة الثالثة)، والآثار والمعقول (الفقرة الرابعة).
إقرأ أيضا:مسلسل الوعد : ملحمة تاريخية عن السيرة الهلاليةالفقرة الأولى : الأدلة من القرآن الكريم
تحجَّجَ علماء الدين الإسلامي رحمهم الله على مشروعية الوكالة في الخصومة (المحاماة)، من القرآن الكريم بجملة من النصوص نذكرها كالتالي :
أولا : قوله تعالى في سورة النساء الآية 105 : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا )، ووجه الدلالة من هذه الآية أنها نصت على عدم جواز المخاصمة عن أهل الباطل، ويفهم منـها جوازها عن أهل الحق.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية مانصه : (نهى الله عز وجـل رسـولـه عـن عـضـد أهـل التهم، والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة ، وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحـد إلا بعد أن يعلم أنه محق ).
وقال الشيخ ابن سعدي في شرحه : ( أي لا تخاصم عن من عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكر حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنّه، ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية، ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم ).
إقرأ أيضا:الأدارسة الأشراف وبداية الدولة المغربيةثانيا : قوله عزوجل في سورة النساء الآية 107 : (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)، ووجه الدلالة من الآية أنها نصت على عدم جواز المجادلة عن الذين يخونون أنفسهم، ويفهم منها جوازها عن الذين لا يخونون أنفسهم.
قال الإمام القرطبي في شرح الآية ( أي لا تحـاجـج عـن الـذين يخونون أنفسهم). وقال الشوكاني (بمعنى لا تحاجج الذين يخونون أنفسهم والمجادلة مأخودة من الجدل ).
وأما تفسير إبن الجوزي فجاء فيه في معنى الآية (أي لا تحاجج الذين يخونون أنفسهم فيجعلونها خائنة بإرتكاب الخيانة )، ويكاد يجمع باقي العلماء على نفس التفسير.
ثالثا : قوله جل وعلى في سورة النساء الآية 109 : (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، ووجه الدلالة من الآية أنها نصت على عدم وجود من يتوكل بالدفاع عن الخائنين يوم القيامة.
يذكر بن جرير الطبري في تفسره للآية : ( يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلاً يوم القيامة، أي : ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة ).
إقرأ أيضا:قبيلة زعير العربيةوفي تفسير إبن كثير جاء : ( أي : هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر – وهم متعبدون بذلك – فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله، عز وجل، الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ في ترويج دعواهم ؟ أي : لا أحد يكون يومئذ لهم وكيلا).
رابعا : قوله سبحانه وتعالى حكاية عن موسى عليه السلام في سورة القصص الآيات 33- 34 : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُو أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ). ووجه الدلالة من الآيتين أن موسى عليه السلام طلب الدفاع من أخيه عنه باللسان لقوله (هُو أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا)، فاستجاب له ربه بقوله تعالى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)، وفي هذا جواز الدفاع عن المحق والمجادلة عنه بالحق، وبالتالي ما يستدل هنا هو مشروعية الوكالة على الخصومة.
قال الفخر الرازي في معنى للآية : (والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان… وليس الغرض بتصديق هـارون أن يقول له صدقت، أو يقول للناس صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بـلسـانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار ).
خامسا : قوله تعالى في سورة القصص الآية 17 : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ)، ووجه الدلالة فيه أن امتناع موسى عليه السلام عن معاونة المجرمين، والدفاع عنهم، يدل بمفهومه على جواز معاونة غيرهم من الصالحين، والمحامي ظهير للموكل الصالح ومعين له لإتباث براءته.
سادسا : يقول الله تعالى في سورة المائدة الآيات 2-3 : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، ووجه الدلالة من الآيتين أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بالمعاونـة علـى فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر علـى الباطل والتعاون على المآثم والمحارم، وكذا المحاماة الشرعية فيها تعاون على البر والتقوى، مما يدل على مشروعيتها.
سابعا : قوله سبحانه في سورة التوبة الآية 71 : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ووجه الدلالة من الآية أن الدفاع عن المظلوم وتقديم المشورة له، مــن الأمر بالمعروف، وأن الادعاء على الظالم وملاحقته حتى ينال عقابه ويرد حقوق الآخرين، مـن النهي عن المنكر، وهذا من أصول عمل المحاماة، مما يدل على مشروعيتها.
الفقرة الثانية : الأدلة من السنة
يستدل الفقهاء المحدثين بمجموعة من الأحاديث النبوية التي تحيل صراحة على مشروعية المحاماة في الشريعة الإسلامية، وسنتناول أهم هذه الأحاديث على الشكل الآتي :
أولا : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كانَ لِرَجُلٍ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِنٌّ مِنَ الإبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقالَ: أَعْطُوهُ، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا له إلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقالَ: أَعْطُوهُ، فَقالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بكَ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً)، ووجه الدلالة من الحديث أنه ﷺ وكل من يقوم بدفع الحق عنه مع حضوره، وهو ما يدل على مشروعية الوكالة ثم المحاماة.
ثانيا : ما ثبت عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا : (إنَّ رَجُلًا مِنَ الأعْرَابِ أَتَى رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ إلَّا قَضَيْتَ لي بكِتَابِ اللهِ، فَقالَ الخَصْمُ الآخَرُ: وَهو أَفْقَهُ منه نَعَمْ، فَاقْضِ بيْنَنَا بكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لِي، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: قُلْ، قالَ: إنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا علَى هذا، فَزَنَى بامْرَأَتِهِ، وإنِّي أُخْبِرْتُ أنَّ علَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ منه بمِئَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فأخْبَرُونِي أنَّما علَى ابْنِي جَلْدُ مِئَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأنَّ علَى امْرَأَةِ هذا الرَّجْمَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بيْنَكُما بكِتَابِ اللهِ، الوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وعلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يا أُنَيْسُ إلى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. قالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فأمَرَ بهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَرُجِمَتْ )، ووجه الدلالة فيه أن والد العسيف هو الذي تكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نيابة عن إبنه محاميا ومخاصما عنه، وما رده الرسول (ص) على ذالك، وهذا فيه دلالة على مشروعية المحاماة في الشريعة الإسلامية.
ثالثا : ما ثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ )، وفي هذا الحديث خمس حقائق وهي :
- أنَّ البَشَرَ لا يَعْلَمون ما غُيِّب عنهم.
- وأنَّ التَّحرِّيَ جائزٌ في أداءِ المَظالِمِ.
- وفيه: أنَّ الحاكمَ له الاجتهادُ فيما لم يَكُنْ فيه نَصٌّ.
- وفيه: التحذيرُ الشَّديدُ عن الدَّعوى الباطِلةِ التي يرادُ منها أكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ؛ لِما تؤدِّي إليه مِنَ النَّارِ، وبئسَ القِرار.
- وفيه : أنَّ إثمَ الخَطَأِ مَوضوعٌ عن القاضي، إذا كان قد وَضَعَ الاجتِهادَ مَوضِعَه.
كما يستدل من الحديث أيضا مشروعية المحاماة وتوكيل المحامي للدفاع عن المظلوم وضعيف البيان في إيصال حجته، لجلب حقه وتحقيق العدل والمساواة وهما ركيزتان في الإسلام.
وقد قال إبن حجر العسقلاني في شرح الحديث هذا : (وفيه إن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطـل في صـورة الحق، وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله « أبلغ » أي أكثر بلاغة، ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم، وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطـل في صورة الحق ).
رابعا : ما ثبت عن أنيس ( أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ -عَمَّتَهُ- كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْوَ، فَأَبَوا، فَعَرَضُوا الْأَرْشَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فأَبَوا إِلَّا الْقِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟! لَا والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ، فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ). ووجه الدلالة في الحديث أن أنيس قام بالدفاع (محاماة) عن الرُّبَيِّعَ رضي الله عنها في شأن تطبيق حد القصاص عليها، حتى أقنع أصحاب الحق وعفو عنها، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه المدافعة، وفي هذا دلالة على مشروعة المحاماة.
خامسا : ما ثبت عن إبن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من خاصَمَ في باطِلٍ وهو يَعلَمُ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يَنزِعَ. وفي لفظٍ: من أعان على خُصومةٍ بظُلمٍ فقد باء بغَضَبٍ مِنَ اللهِ )، وفي هذا الحديث وعيد شديد على الذي يدافع عن الباطل في خصومة وهو يعلم أنها مبطلة وأن من يدافع عنه على غير حق وفي نفس الأمر يدل على أن من أعان على خصومة بحق بما يوصـل الحـق إلى صاحبه، فهو مستحق لثواب الله، لأن في ذالك تعاونا على البر والتقوى وهذا دليل على مشروعية المحاماة ذالك أنها إعانة على خصومة بالحق.
وتتعدد الأحاديث النبوية التي تؤكد حقيقة واحدة وهي جواز الوكالة بالخصومة في الدفاع عن الحق، وبطلانها في الدفاع عن الباطل.
الفقرة الثالثة : الأدلة من الإجماع
الإجماع في اللغة يراد به العزم على الشيء، أو الاتفاق، وفي اصطلاح الأصوليين : هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي.
وعلى مستوى مشروعية المحاماة نجد أن أهل العلم في الإسلام قد اجمعوا بالتواتر على جواز التوكيل في المطالبة بالحقوق والخصومة ونحوها، قال ابن المنذر رحمه الله : (وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمريض العاجز عن الخروج إلى مجلس الحكم والغائب عن المصر أن يوكل كل واحد منهما وكيلًا يطلب له حقه ويتكلم عنه) .
وقال ابن هبيرة : ( واتفقوا على أن الوكالة من العقود الجائزة في الجملة وأن كل ما جازت به النيابة من الحقوق جازت الوكالة فيه كالبيع والشراء والإجارة وقضاء الدين والخصومة في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق وغير ذلك).
وقال شمس الأئمة السرخسي: ( وقد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر ).
وقال النووي في المجموع (وأما الإجماع {أي علـى مشروعية الوكالة}، فهو منعقد على مدى الدهر منذ نزول الوحي إلى اليوم، وإلى يوم الدين ) ، وقد نقل ابن قدامة هذا الإجماع حيث قال (أجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ).
كما صرح القاضي إبن السمناني في معرض حديثه عن جواز الوكالة على الخصومة ( أعلم أن الوكيل إذا صحت وكالته ولزمته حجته جاز للقاضي أن يسمع دعواه، والدعوى عليه فيما يصح أن يتولاه لغيره…) ويضيف في موضع أخر ( وللوكيل المخاصمة فيما وكل به ما لم يخرج من الوكالة بموت ).
وعليه فلا خلاف بين الفقهاء والعلماء من الأصوليين والمحدثين، في جواز ومشروعية الوكالة على الخصومة (المحاماة)، سواءا في الأموال أو الأنكحة أو في المطالبة بأي حق من الحقوق.
الفقرة الرابعة : الأدلة من الآثار والمعقول
إن الفقه يستند أيضا في إثبات مشروعية المحاماة على الأدلة من آثار الصحابة رضوان الله عليهم ومن المعقول (أي ما عرف عن طريق العقل وتسمى الأدلة العقلية).
فمن آثار الصحابة الكرام نذكر :
أ : عن عبد الله بن جعفر قال: ( كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكره الخصومة فكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبي طالب، فلما كبر عقيل وكلني ).
ب : ماقيل عن محمَّد بن إسحاق عن رجل من أهل المدينة يقال له جهم عن علي -رضي الله عنه- : ( أنه وكل عبد الله بن جعفر بالخصومة فقال: إن للخصومة قُحَماٌ ).
ح : ما جاء عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، أنه كان يحدث أن علياً رضي الله عنه، كان لا يحضر الخصومة ، وكان يقول (إن لها قحما يحضرها الشيطان )، فجعل خصومته إلى عقيل ، فلما كبر ورق حولها إلي فكـان علي يقول : ( ما قضي لوكيلي فلي ، وما قضي علـى وكيلـي فعلي)، ووجه الدلالة من الحديث أن توكيل علي بن أبي طالب لعقيل بن أبي طالب، وعبدالله بن جعفر، كلمـا عرضت له خصومة دليل على مشروعية الوكالة على الخصومة، التي هي جزء من عمل المحاماة، فدل ذلك على جواز المحاماة ومشروعيتها.
وأما دليل المعقول : فمفاده أن الحاجة تدعو إلى (الوكالة على الخصومة / المحاماة)، فقد يكون للشخص حق يطلبه أو يدعى عليه حق لغيره وهو لا يحسن الخصومة فيه أو يكره أن يباشرها بنفسه، فيجاز له أن يوكل غيره للنيابة عنه في الخصومة من أجل حفظ حقه، ودرء الظلم عنه.
واستخلاصا لما سلف، يمكن القول أن المحاماة بلغة العصر هي الوكالة بلغة الإسلام، وهي مشروعة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والآثار والمعقول. فكما يقول الدكتور ظافر القاسمي، ” إن كل مختص في فقه الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء يعرف تمام المعرفة أن نصوصهم تستصحب الحكم بمشروعية المحاماة “.
وإن كان الأصل أن مشروعية المحاماة في الفقه تعرف إجماعا، فإن الشروط التي وضعها الفقه الإسلامي لصحة الوكالة في الخصومة عرفت إختلافا طفيفا بين المذاهب الأربعة.
مراجع
- الفهرس الهجائي لكتاب المغني ، محمد بن سليمان الأشقر ، دار البحوث العلمية، الطبعة الأولى ، د. ت ، ص86
- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي كتاب ” تفسير القرطبي ” ،تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، د. ت ،الجزء الخامس – الصفحة 377.
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ، تحقيـق عبدالرحمن اللويحق ، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثالثة ، د. ت ص 200.
- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي الجزء د. ن / د. ت الجزء الخامس، ص379.
- الامام محمد بن علي بن محمد الشوكاني كتاب ” فتح القدير : الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير” دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، د. ت ، ج1 ص518.
- جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي كتاب ” تفسير ابن الجوزي (زاد المسير في علم التفسير)” تحقيق أحمد شمس الدين، د. ت ، ج1 ، ص 115.
- محمد بن جرير الطبري كتاب “جامع البيان عن تأويل آي القرآن” ، دار الفكـر، بيروت ، د. ت ، الجزء الخامس ، ص272.
- المحاماة في الفقه الإسلامي ، (رسالة دكتوراة في الفقه الإسلامي)، إعداد الطالب بندر بن عبد العزيز ، إشراف الدكتور رويعي بن راجح الرحيلي د. ت ، ص110.
- محمد بن جرير الطبري كتاب “جامع البيان عن تأويل آي القرآن” ، دار الفكـر، بيروت ، د. ت ، الجزء العشرون ، ص 74.
- إبن كثير الدمشقي كتاب ” تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)” ، طبعة جديدة ومنقحة ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، د. ت ، الجزء 3 ، ص349.
- فخر الدين الرازي كتاب ” التفسير الكبير” ، دار الكتب العلمية بيروت 1981 ، الجزء 24 ، ص249.
- بو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري كتاب ” صحيح البخاري: مخرج الأحاديث محقق المعاني” تحقيق محمد موسى جواد عفانة ، المنهل د. ت، المجلد الأول، ص 430.
- أبي عبد الله محمد الضياء المقدسي كتاب ” صحاح الاحاديث فيما اتفق عليه اهل الحديث” ، تحقيق د. حمزة أحمد الزين ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، د. ت ،ج2 ، ص518.
- أبي عبد الله محمد الضياء المقدسي كتاب ” صحاح الاحاديث فيما اتفق عليه اهل الحديث” ، تحقيق د. حمزة أحمد الزين ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ، د. ت ،ج3 ، ص 355. / حديث أم سلمة موقع الدرر السنية قسم الموسوعة الحديثية الصفحة أو الرقم : 7169.
- يحيى بن (هُبَيْرَة بن) محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ ، ” كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح “، تحقيق فؤاد عبد المنعم، دار الوطن ، د.ت ، الجزء السادس، ص 144.
- بو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي ، كتاب “المغني ” ، مكتبة القاهرة ، 1968م ، ج7 ، ص197.
- علي بن محمد بن أحمد، أبو القاسم الرحبيّ المعروف بابن السِّمناني (المتوفى: 499 هـ) ، كتاب ” روضة القضاة وطريق النجاة “، تحقيق د. صلاح الدين الناهي ، مؤسسة الرسالة بيروت ، 1984م ، ج1 ، ص181.
- عَبد الله بن محمد الطيّار، أ. د. عبد الله بن محمّد المطلق، د. محمَّد بن إبراهيم الموسَى ، كتاب ” الفِقهُ الميَسَّر” ، مَدَارُ الوَطن للنَّشر، الرياض – المملكة العربية السعودية، 2012م، ج8 ، ص164.