القربينة هي نوع من البنادق العربية التي تم تطويرها في القرن التاسع الهجري (+800) والقرن الخامس عشر بالتقويم الغربي (+1400)، وهي تشتهر بتصميمها الفريد والذي يتضمن عدة ميزات تجعلها مميزة بين الأسلحة النارية.
تعتبر القربينة أول سلاح ناري يمكن حمله على نحو مماثل للبنادق الحالية معطياً بعض الدقة في التسديد بكون المدى المؤثر محدود بحوالى 50 متر بأن بسبب ارتدات القذيفة الكروية على الجدران الماسورة الملساء معطية إيـّها مساراً غير دقيق، وتجاوز ذلك لما يزيد عن 100 متر خلفها المباشر الذي استخدمه المغاربة والتي وُصفت في كتابات عن صراع المماليك والعثمانيين لاحقا في نفس القرن.. وقد تميزت بتصميمها الصغير والمحمول بواسطة الفرد، وهذا ما جعلها تتفوق من هذه الناحية على الأسلحة النارية السابقة التي كانت أكبر حجماً وأكثر تعقيداً في الاستخدام ولا يمكن حملها من طرف الفرد (المدافع الصغيرة).
أما اسم القربينة فمن الواضح أنه دلالة على الغرض منها وهو الاشتباكات القريبة، فهي فعالة جدا فيها (من أقرب الأمثلة لها، والمبنية بنفس مبدأ عملها، نجد بندقية سيمونوف الروسية/السوفيتية ذات مدى فعال يٌقدر ب 400 متر وتُسمى أيضا “أس كي أس”).
تتميـّز القربينة عن سابقها المدافع اليدوي بأن لها فتيل، وكخليفتها “المسكيت” فهي سلاح ناري أملس الماسورة، إلا أنها أخف وأسهل في الحمل ويتراوح عيارها بين 15 – 18 مم. تعتبر سلف البندقية وغيرها من الأسلحة النارية بعيدة المدى . الكاليفر هي نسخة محسنة من القربينة أنتجت أوائل القرن السادس عشر .
إقرأ أيضا:إكتشاف العرب لأمريكاتتكون القربينة من جسم رفيع وطويل، وعادة ما يكون مصنوعًا من الخشب الصلب مع الزخارف والنقوش الجميلة التي تزينها. ويتميز السلاح بتصميم أنيق وخفيف الوزن، مما يجعله سهل الحمل والتحكم به.
تحتوي القربينة على آلية إطلاق نار تعمل بواسطة الزناد، وتستخدم عادة كمسدسات قنص قصيرة المدى وهي تستخدم في العديد من المناطق في العالم العربي، وخاصة في شمال إفريقيا وبلاد الشام.
وتختلف مكونات القربينة قليلاً باختلاف التصميم والفترة الزمنية للبندقية. ومع ذلك ، في العادة تتضمن القطع الرئيسية للبندقية العربية ما يلي:
1- النارية: هي المكون الرئيسي في البندقية، وهي المسؤولة عن توليد الشحنة النارية التي تطلق الرصاص.
2- الخزانة: وهي حاوية تستخدم لحفظ البارود وعدة النظام الأساسي الذي يعمل عليه السلاح.
3- الحامل: يستخدم لدعم البندقية أثناء إطلاق النار.
4- الزناد: هو الجزء الذي يستخدم لتفعيل النارية وتوليد الشحنة النارية.
5- الشوط: هو الجزء الذي يقوم بدفع الرصاص داخل النارية.
6- البارود: هو مادة الدفع الرئيسية التي تستخدم لتوليد الشحنة النارية.
7- الرصاص: وهو الذي يتم إطلاقه من البندقية.
إقرأ أيضا:الحايك العربي المغربيوفي ما يلي رسم يوضح مكونات هذا النوع من البنادق:
تعتبر القربينة جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي والتاريخي للعالم العربي، حيث تم استخدامها في الماضي للصيد والدفاع عن النفس. وعلى الرغم من تطور التقنيات العسكرية الحديثة، لا تزال القربينة تستخدم في الأحيان القليلة كأداة للصيد والرماية وكذا المواسم الاحتفالية كجزء استعراضي أساسي، مثلا في المغرب العربي وبالضبط في المغرب نجد فن التبوريدة الذي نشأ في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، والمعروف أيضًا باسم الخيالة والباردية، ويحاكي عمليات الهجوم التي كان فيها المغاربة يستخدمون هذه البنادق أثناء عمليات الهجوم:
من الجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) قد أدرجت الـ”تبوريدة” على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي قبل سنتين من الان (أي سنة 1443 هــ، 2021 مــ). وكان المغرب قدم رسميا قبلها بسنتين طلبا بهذا الشأن. ويشارك في لوحات عروضها سرب من الفرسان يرتدون لباسا موحدا ويقومون بإطلاق طلقات نارية بشكل جماعي في نهاية عرض كل لوحة.
أما في المشرق العربي فإننا نجد فنونا مماثلة تستخدم البنادق في استعراضات تحاكي العمليات العسكرية أيضا مثل فن المجاميع والمكحلة في السعودية والذي يسمى أيضا الخيل والبارود وقد يطلق عليه بنادق البارود الاستعراضية:
إقرأ أيضا:العرب في الأندلس
عموما، كان انتشار البنادق سريعا جدا في بلدان المسلمين خصوصا بعد سقوط غرناطة وهجرة الكثير من الأندلسيين منها نحو بلدان المسلمين في افريقيا واسيا، خاصة المغرب العربي الذي كان سببا في وصولها للمشرق العربي أساسا، وهذا ساهم في إيصالها للدولة العثمانية أيضا ولكنها لم تستخدمها في فترة مبكرة، بل أخذت وقتا لكي تظهر بقوة في بعض معاركها من أشهرها التي استخدمتها في معارك شهيرة ضد المماليك في مصر، وللغرابة فإن البندقية في الغالب وصلت للعثمانيين عن طريق المماليك إذ أنهم توصلوا بها قبل ظهور أي استخدام عثماني لها، ويقول المؤرخ المصري ابن زنبل أحمد بن علي الرمّال على لسان الأمير كرتباي الوالي عندما وقع في أسر سليم الأول، كيف رفض المماليك استخدام البندقية كسلاح في الحرب :
“قد جاء بهذه البندقية رجل مغربي للسلطان الأشرف قانصوه الغوري – رحمه الله تعالى وقتل قاتله – وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق، وقد استعملها عساكر الروم والعرب، فأمره أن يعلمها لبعض مماليكه (يقصد يدربهم على طريقة استخدامها) ففعل، وجيء بهم، فرموا بحضرته، فساءه ذلك، وقال للمغربي: نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى، وقد قال مولانا سبحانه وتعالى:”إن ينصركم الله فلا غالب لكم” فرجع ذلك المغربي وهو يقول: من عاش ينظر هذا الملك وهو يؤخذ بهذه البندقية، وقد كان كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.
واستمر في محاججة سليم، مبررا أن البندقية، لو وجدت مع امرأة لقتلت بها الخلق الكثير فـ “هذه هي البندق التي لو رمت بها امرأة لمنعت بها كذا وكذا إنسانًا، ونحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد، ويا ويلك كيف ترمي بالنار على من يشهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة”.
والحقيقة أنهم ارتكبوا خطأ فادحا لا أساس شرعي له، فهم أصلا يستخدمون المدافع النارية، فكيف يمتنعون عن استخدام البنادق النارية؟؟
موقف الغوري لم يكن نابعاً من الشريعة الإسلامية إطلاقا، فلو قرأ آيات الجهاد في القرآن الكريم، لوجد متسعاً في قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال – الآية 60).
لكن يبدو أنها كانت هناك أسباب أخرى ربما أخفاها، وربما أظهر بعضهم ما يخشونه حقيقة في قوله مثلا “لو وجدت مع امرأة لقتلت بها الخلق الكثير”، فالحقيقة أنهم كانوا يخشون من أن تقلب عليهم الأوضاع ويذهب مُلكهم بأيدي شعبهم، وهذا ربما دليل على عدم ثقتهم برعيتهم وهذا بدوره يدل على فساد الدولة.
وهذا ليس مجرد توقع، بل يمكننا التاكد منه من نفس المؤرخ لما وصف الجيش المملوكي الذاهب لملاقاة العثمانيين فقال فيهم: (بالجيوش والعساكر، وهم يموجون كالبحر الزاخر والسحاب الماطر، فرسان كالعقبان الكواسر..)
ثم برر هزيمتهم قائلا: (إذا نزل القضاء عمي البصر، فألقى الله تعالى فيهم الفتنة، فكان كل من الأعيان يتمنى هلاك السلطان حتى يكون هو السلطان، فبهذا الموجب هلكوا أجمعين).. هنا برر بالقضاء والقدر، لكن انتبه إلى الفساد المستشري في الجيش المملوكي، والذي أشار لها بسوء النية المتبادلة بين قادته وتمنيهم هلاك سلطانهم للإنقلاب عليه.
عموما، ما يهمنا هنا أن وصول البنادق للدول العربية بالمشرق كان سريعا لكن وللأسف لم تكن هناك قيادة قوية توليها الاعتناء اللازم وتحقق بها تقدما عسكريا، خصوصا المماليك المتخاذلين.. فقد سحقتهم الدولة العثمانية بالبنادق نفسها في وقت لاحق وبعد زمن من وصولها لهم عن طريق المغاربة؛ ومن أبرز معاركها ضدهم كانت معركة مرج دابق والتي وقعت في عام 922 للهجرة ( 1516 ميلادية) بين العثمانيين والمماليك المصريين، وتم استخدام البنادق بشكل واسع خلال المعركة، وأسفرت عن انتصار العثمانيين انتصارا ساحقا.
بسقوط الأندلس بيد الاسبان والجيوش الأوروبية أخذ هؤلاء البندقية العربية منهم وطوروا عنها نسخا استعملوها في حروبهم ضد أمم أخرى لعل أبرزها القضاء على الهنود الحمر في مناطق شاسعة من القارتين الأمريكيتين.
وما دمنا دخلنا في هذا السرد التاريخي، ورغم أنني لا أريد الإطالة فيه لكون المعلومات والتفاصيل كثيرة (لمثل هذا نقول بضرورة إنجاز مؤسسات تعنى بتاريخ العلوم والصناعات في بلداننا.. لدينا إرث تاريخي عظيم جدا يحتاج لمن يجمعه وينقحه ويقدمه لشعوبنا لتعتبر من الأخطاء وتستفيد من الإنجازات، فسياقها في بلداننا يختلف كليا عن سياقها في بلدان أوروبا وشرق اسيا ولا مجال للبناء على دراسات مماثلة من تلك البلدان للإختلاف الشديد بين مجتمعاتنا والسياقات التاريخية التي تطورت فيها العلوم عندنا مقارنة بما كان لديهم) كما أن كل تفصيل يحتاج تعليقا وليس هذا مجاله؛ ولكنني أريد التعقيب على نقطة مهمة ترتبط بتاريخ ظهور المدافع النارية وكذا البارود نفسه.. فقد لاحظت من خلال تعليقات الكثيرين في صفحة المنصة العربية على فيسبوك في منشور مرتبط بأن هناك خلطا واضحا بين هذين الموضوعين وتاريخ إنشاء البنادق، والبعض يخلط بين كل هذا وبين ظهور أول مسدس ذو طلقات متكررة في وقت لاحق.
لذلك سنُعرج على كلا الموضوعين بسرعة:
بالنسبة للبارود هناك تضارب أقوال في أول استخدام له بشكل عام فالبعض يقول المسلمون العرب والبعض الاخر يقول الصينيون، والجميع لديه أدلة معتبرة لكنها لا تكاد تخلوا من مقال، إلا أن الثابت أن أول استخدام عسكري مسجل للبارود كان من طرف الجيوش المسلمة، وننقل هنا عن مصطفى عبد الكريم الخطيب قوله: “أول من استخدم البارود هم المسلمون العرب” (كتاب “معجم المصطلحات والألقاب التاريخية” )؛ انتبه ان الاستخدام المقصود هنا هو العسكري حصرا.
ومن مقال في موسوعة المعرفة بعنوان “تاريخ البارود” نجد أنه يُذكر في ثورة الزنج أن العمال الزنوج في البصرة كانوا ينقلون ملح البارود (يُذكر باسم الملح الصخري) عام 71هـ/690م. وقد عرف الكيميائيون العرب الأوائل ملح البارود في أواخر القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) حيث كان يستعمل لأغراض حربية مثل نسف الحصون و كذلك للألعاب النارية.
أما الصينيون فيقولون أنهم عرفوا البارود في أواخر عهد سلالة تانغ (القرن التاسع) (ولازالو ينجزون له الاحتفالات كأحد الإختراعات الأربعة العظيمة.. رغم أنهم يقصدون ملح البارود حقيقة وكان لأغراض ترفيهية كالألعاب النارية عادة، مع ظهور استخدامات عسكرية له في نفس الفترة كالرمح الناري).
بكل حال الثابت أن أول استخدام للمدفع الناري كان في حصار سرقسطة في عام 511هـ/1118م من طرف المسلمين.. كما استخدموها في حروب ومعارك كبرى وفي أكثر من دولة في فترات لاحقة، من بينها دول المماليك وكذا الدولة العثمانية التي كانت من أبرز معاركهم بالمدافع النارية تلك المعارك الشهيرة التي تُوجت بفتح القسطنطينية عام 857 للهجرة ( 1453م) حيث تم تطوير مدفع الدردنيل أو المدفع السلطانى خصيصا لتلك المواجهة.
أيضا، أقترح مراجعة أطروحة حسن الرماح (مبتكر أول طوربيد في التاريخ المعروف، بين 637 و 678 للهجرة، 1240 و 1280 ميلادية) حيث استخدم البارود في ابتكاراته العسكرية.. سبق وأن نشرنا عنه مقالا مفصلا مع اقتباسات لرسوم الطوربيد الذي صنعه (وقد كان عبارة عن صاروخ مائي يطلق على سطح الماء ليخترق السفن المعادية)، رابط المقال:
وللإستزادة أكثر في الشق التاريخي يمكنك إلقاء نظرة على كتاب “الأسلحة في العالم الإسلامي” لمؤلفه “أنثوني سي تيري” فهو يتضمن سردا تاريخيا لتطور الأسلحة في العالم الاسلامي عامة والعربي خاصة ويُعرج على انتقال تقنياتها منه وإليه مع حضارات وامبراطوريات احتكت به مثل المغول والأوروبيين، ونذكر منها:
- بندقية القربينة كانت موجودة في المغرب منذ القرن الخامس عشر (التاسع الهجري)، واستخدمت في الحروب ضد الإسبان في القرن السادس عشر.
- في العصر العثماني، تم استخدام البنادق والمدافع بشكل واسع في الحروب ضد الفرس والرومان في القرن السابع عشر.
- في الهند، استخدم المسلمون البنادق والأسلحة الأخرى في الحروب ضد الهندوس في القرن السابع عشر، وكانت هذه الحروب مفتوحة في بعض الأحيان بالنسبة للاختلافات الدينية بين المجتمعات.
- كان للبنادق دور هام في الحملات الإستكشافية والاستعمارية في القرن السادس عشر والسابع عشر، حيث استخدمها الإسبان والبرتغاليون في حروبهم ضد الحضارات المكتشفة حديثا بالنسبة لهم (القارات الأمريكية على وجه التحديد).
قبل أن أختم هذا المقال أود الإشارة لنقطة طُرحت مرارا في تعليقات المنشور المخصص لهذا الموضوع على صفحة المنصة العربية في فيسبوك، وهي عبارة عن سؤال متكرر نصه: لماذا انهزمت غرناطة رغم امتلاكها سلاحا فتاكا كالبندقية ولم يكن غيرها يملكه، بمن فيهم من هاجموها من الجيوش الأوروبية؟
الحقيقة أن من يطرح هذا السؤال غالبا نجده يجهل أن المدافع النارية كانت تستخدم في الحروب قبل ذلك بقرون، وهذا من خلال تفاعلنا مع عدد من هذه التعليقات المشابهة، والبعض منهم كابر قائلا “البنادق يجب أن تتفوق على المدافع” !! وهو كمن يقول أن شخصا يملك مسدسا يمكنه التغلب على دبابة !!
عموما، كانت أسباب سقوط غرناطة متعددة ومن أهمها خيانة بعض أواخر سلاطينها، حتى أن وانتهى الأمر بأن سلمها اخر سلطان على غرناطة (أبو عبدالله الصغير) مستسلما ولم تتم هزيمتها عسكريا حتى نقارن بين البنادق والمدافع أو نتأكد من فعاليتها في حرب كبرى انذاك.
وقد جدنا أن أصحاب بعض التعليقات يعرفون هذا أساسا وغرضهم هو التشويش لا أكثر؛ لذلك نؤكد أن مسألة ابتكار البنادق النارية الأولى في غرناطة هي مسألة تاريخية مجمع عليها وليست للمزايدات هنا، ونشرنا لهذا الموضوع والبحث فيه إنما للمعلومات الخاطئة المنتشرة بين المسلمين والعرب اليوم من أن ابتكار هذا النوع من الأسلحة يعود لأمم أخرى، البعض يقول الصين (حين يختلط عليه الأمر بالجدل حول من عرف البارود أولا) والبعض الاخر يقول الأوروبيين (حين يختلط عليه اختراع بعض الأسلحة الحديثة كالمسدس)، والبعض الاخر منهزم يجتر كلاما من هنا واخر من هناك لكي يُريح ضميره من تحمل مسؤولية استعادة أمجاد أجداده وثقل إرثهم العلمي والحضاري.
وللتوضيح أكثر فقد كانت غرناطة تملك المدافع أيضا لكن بشكل أقل بكثير مما يملكه جيش مكون من دول أوروبية عديدة تحاصرها في ظل خذلان من باقي المسلمين وخونة كثر (ومشككين ومثبطين دفعوا الناس لقبول الاستسلام دون قتال).
وزيادة على كل هذا فإن موضوع بحثنا هو “أول ابتكار لسلاح البندقية” وليس “مراحل تطويرها لتصل لما وصلت له الأسلحة النارية اليوم” حتى نقارن بين الحديثة وفعاليتها بما كانت عليه لما اختُرعت القربينة، فقد كانت هذه الأخيرة في نسخها الأولى بسيطة وذات مدى قصير لا تستطيع حسم المعارك الكبرى بها، بل خصصت للاشتباكات القريبة أساسا، وابتكارها لا يعني أنك ستنتصر، وكأقرب مثال نضربه في هذا الصدد هزيمة هتلر رغم تفوقه العسكري الكاسح على كل أوروبا وشروعه في تطوي أسلحة فتاكة لم يكتب للكثير منها الإكتمال وانتقلت لاحقا للمعسكر المنتصر (بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي غنمت كل الصناعات الألمانية لتختصر بها الجهد والوقت المطلوبين لتصل لما وصلت له اليوم من تطور تقني عسكري)، فمن المعروف أنه لم يقلب الكفة على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية إلا تدخل قوتين عسكريتين موازيتين هم الامريكيين والروس.. نفس الشيء مع اختلاف السياق والأطراف المتصارعة في غرناطة، إذ لم تُحسم معارك الاندلس ضد المسلمين الا بمشاركة أوروبية واسعة قلبت الكفة في حين كانت باقي الدول المسلمة (بمن فيها الدولة العثمانية) متخاذلة وبعضها غير قادر على المساعدة.
الكلام يطول هنا وقد نشرتُ مرئيا وضحت فيه هذه المسألة يمكنكم مشاهدته على يوتيوب في قناة المنصة العربية:
وكنقطة أخيرة قبل أن أغلق هذا القوس، وهي رسالة لمن يستنكر بحثنا في هذا الجانب من التاريخ وإصرارنا على نشره والتأكيد على أهميته، أقول: إن كان ماضي المسلمين وإنجازتهم لا يهمك فأنت حقا منهزم سلفا ولا يمكنك أن تشارك في أي نهضة مهما كانت صغيرة؛ وانتبه يا صاح أن الدول المتقدمة (بمن فيهم الدول الأوروبية الأبرز) لديهم مؤسسات متخصصة في ما يسمى “تاريخ العلوم” شغلها الشاغل هو تتبع العلوم ومعرفة المشاكل التي تواجهها وتعرقل تطورها من جهة، والحرص على الرفع من قيمة علمائهم وتقديمهم كقدوات لرفع الهمم بين شعوبهم وتحبيب العلم والعلماء لهم، وهذه نقطة تُحسب لهم؛ عكس بلداننا العربية ، والاسلامية عامة، تتخبط ولا تملك ولا مؤسسة واحدة في تاريخ العلوم، كما أن نخبتها المنتكسة منبهرة بعلماء الأمم الأخرى وكأنهم (“المثقفون”) لقطاء لا تاريخ لهم.
لذلك، إن كان يبدو لك هذا بلا قيمة فاعلم أنك في المكان الخطأ وندعوك لترك صفحاتنا ومنصتنا والبحث لك عن صفحة تُمجد فلاسفة اليونان، وفي أفضل حال تجدها تطبل لنيوتن وأينشتاين (لا نقصد الانتقاص من هؤلاء بالطبع، فاينشتاين عالم لا يشق له غبار في مجاله، ولكن نقصد أن علماء أمتنا أيضا لا يقلون شأنا عنه، فمثلا ابتكار علم الجبر من طرف علماء المسلمين قديما لا يقل أهمية عن النسبية العامة، بل ربما يتجاوزها، وقد نجد أن كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي يفوق ورقة تكافؤ المادة والطاقة لاينشتاين بمراحل نظرا لإعتماد جل الصناعات المهمة اليوم على علم الجبر.. فلا يتحمس أحد المستلبين هنا ويهاجمنا مدعيا الدفاع عن العلم والعلماء).
ونختم بالإشارة إلى أن القربينة لا تعتبر مجرد سلاح فقط بل هي أيضًا تحفة فنية وتشهد على تاريخ غني ومتنوع للعالم العربي خاصة والإسلامي عامة. وهي تشير إلى العزم والشجاعة والفخر بالهوية العربية التي تتميز بالتنوع والغنى.
مصادر:
- كتاب آخرة المماليك أو واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني، لابن زنبل أحمد بن علي الرمّال.
- كتاب «الفروسية والمكائد الحربية» لحسن الرماح المتوفى سنة 693هـ/1294م.
مصادر أجنبية:
- كتاب “الأسلحة في العالم الإسلامي” ل “أنثوني سي تيري”.
- “نسخة”. مؤرشف من الأصل ، وتتحدث عن كون المسكيت خلف للقربينة (arquebus/arquebusier).
- مباشرة بعد سقوط غرناطة نهاية القرن 15، ظهور أول جيش مسلح بالبنادق في أوروبا، وبالضبط في غرناطة:
مصدر الصورة - Smythe، John (1590). Certain Discourses. London.
- Seaver، Henry Latimer (1966) [1928]. The Great Revolt in Castile: A study of the Comunero movement of 1520–1521. New York: Octagon Books. ص. 325.