لما كانت أوروبا تعيش في ظلمات الجهل والتخلف تحت رأفة الكنسية البابوية، برز نجم العرب في العلوم على مختلف أنواعها الكونية والعقلية كالهندسة والرياضيات والحساب والفلك وفيه قدموا إسهامات كبيرة أهمها إختراع الأرقام العربية التي لازالت مستعملة لهذا اليوم.
فلما نهض العرب نهضتهم العجيبة ودخلوا أكثر أقطار المعمورة اتصلوا بالهند فاقتبسوا فيما اقتبسوه منها الأرقام الهندية المتعددة وقد قدروا النظام الترقيمي عندهم، ففضلوه على حساب الجمل الذي كانوا يستعملونه قبلاً، وكان للهنود أشكالا عديدة من أنواع الأرقام ولكن العرب بعد أن اطلعوا على أكثر هذه الاشكال كونوا منها سلسلتين عرفت احداهما باسم (الأرقام الهندية أو الخوارزمية) وعرفت الثانية باسم (الأرقام الغبارية) وهذه الأخيرة هي المشهورة في بلاد المغرب العربي والمستعملة دوليا في بلدان الغرب، يقول العلامة عبد الله كنون في هذا السياق “ ويلحق بالخط المغربي الأرقام الحسابية المعروفة بالغباري وبحرف الغبار وهي التي تسميها الكتب الافرنجية الأرقام العربية (Les chiffres arabes) ولا تستعمل إلا في بلاد المغرب من الوطن العربي، على أنها منتشرة في جميع أقطار العالم… ويُقال إن أول من أدخلها الى أوروبا هو البابا سلفستر الثاني وكان قد أخذ العلم ببلاد الأندلس والمغرب “.(راجع هنا)
أولا : الأصول التاريخية
بإستقرائنا للتاريخ وما قاله المؤرخون القدامى المسلمين نجد تضاربا في الأقوال حول أصول الأرقام العربية الغبارية، بين من يقول أن أصلها عربي وأنها تتخد شكل الزوايا بحيث أن كل رقم يمثل عدده من الزوايا وهذا ما ذهب له البيروني أيضا، وبين من يقول أن أصلها الذي إقتبست منه هندي وهذا ما ذهب له ابن الياسمين الفاسي.
إقرأ أيضا:القبائل العربية في الأندلسفأما البيروني فقال “ ويرى بعض العلماء أن السلسلة الغبارية مرتبة على أساس الزوايا فرقم 1 يتضمن زاوية واحدة ورقم 2 يتضمن زاويتين وهكذا والأرقام على أساس الزوايا … ثم دخل في أشكال هذه السلسلة بعض التحوير وطرأ عليها تغييرات بسيطة فأصبحت في الشكل المعروف “.(راجع هنا)
أما ابن الياسمين فذكر في مخطوطه { تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار } : “ واعلم أن الرسوم التي وضعت للعدد تسعة أشكال يتركب عليها جميع العدد وهي التي تسمى أشكال الغبار وهي هذه ،1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9، وقد تكون أيضًا هكذا ١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦ ، ۷، ۸، ۹، ولكن الناس عندنا على الوضع الأول، ولو اصطلحت مع نفسك على تبديلها أو عكسها لجاز، ووجه العمل على حاله لا يتبدل، وقد صنعها قوم من جواهر الأرض، مثل : الحديد والنحاس من كل شيء منها أعداد كثيرة ويضرب بها ما شاء من غير نقش ولا محو وأما أهل الهند فإنهم يتخذون لوحًا أسود يمدون عليه الغبار وينقشون فيه ما شاءوا لذلك يسمى حساب الغبار وعلى الحقيقة ليس إلا المداد والمحو“. (راجع هنا)
إقرأ أيضا:#تطبيق السنة الإداريةوإن إستعنا بقول كل من ابن الياسمين والبيروني على سبيل المثال فذالك لأنهم كانوا من نوابغ علم الجبر والحساب وكل واحد منهم يمثل إتجاه من الإتجاهين سالفه. لكن ما تنبغي الإشارة إليه أنه في وقتنا الحالي وبعد تطور دراسة المخطوطات وتحقيقها ظهرت حقائق أغفل عنها القدامى، وبحسب ما توصل له العلماء فإن أقدم مخطوط يتضمن الأرقام الغبارية على شاكلها (1,2,3,4,5,6,7,8,9) هو لمؤلفه محمد بن موسى الخوارزمي (780-850م)، وتوجد منه نسخة واحدة اليوم مترجمة باللاتينية تحت عنوان{Algoritmi de numero Indorum}، ثم يليه كتاب البيروني(973م) وجاء ذكر هذه الأرقام مرة أخرى في كتاب “طبقات الأمم“ (كتب سنة 1068م) لصاحبه ابن صاعد الأندلسي إمام العلماء في الأندلس فريد عصره وفيه يقول : “ومما وصل إلينا من علوم الهند في العدد حساب «الغبار» الذي بسطه أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي. وهو أوجز حساب وأصغره، وأقربه تناولاً وأسهله مأخذاً وأبدعه تركيباً، يشهد للهند بذكاء الخواطر وحسن التوليد وبراعة الاختراع “.(راجع هنا/هنا)
أما المخطوط الرابع الذي تناول أرقام الغبار العربية فهو لإبن الياسمين الفاسي (1204م) المعنون ب{ تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار} وهذا دليل كافي على أنه ليس من مخترعي هذه الأرقام كما يزعم قلة السفهاء اليوم، بل إن حساب الغبار كان مشهورا عند أهل الأندلس قبل وصوله للمغرب فنجده يكرر في عدة مخطوطات قبل وجود ابن الياسمين فإلى جانب ابن صاعد الأندلسي مثلا نجد إشارة لحساب الغبار عند أبو عمرو الداني أيظا (981م) الذي يقول : “وهذه الدارة التي تُجْعَلُ على الحروف الزوائد، وعلى الحروف المخففة هي الصفر اللطيف الذي يجعله أهل الحساب على العدد المعدوم في حساب الغبار، دلالة على عدمه لعدم الحرف الزائد في النطق، وعدم التشديد في الحرف المخفّف سواء، فمن الصفر أُخِذَت الدارة، وهو أصلها“. (راجع هنا)
إقرأ أيضا:رسالة لكل من يحارب اللغة العربيةوبعد توضيحنا لأصول الأرقام العربية الغبارية وجب علينا أن نشرح ما المقصود بأصلها الهندي قبل أن نختم هذه الفقرة، وقد أوضح البيروني القصد هنا صراحة بقوله : “ وليس يجرون على حروفهم شيئاً من الحساب (الهنود) كما نجريه على حروفنا في ترتيب الجمل. وكما أن صور الحروف تختلف في بقاعهم كذلك أرقام الحساب وتسمى «انك». والذي نستعمله نحن مأخوذ من أحسن ما عندهم ولا فائدة في الصور إذا عرف ما وراءها من المعاني. وأهل كشمير يرقمون الأوراق بأرقام هي كالنقوش أو كحروف أهل الصين ولا تعرف إلا بالعادة وكثرة المزاولة : ولا تستعمل في الحساب على التراب“. (راجع هنا)
فالبيروني أوضح أن الحروف الأبجدية والأرقام إختلفت لدى الهنود أنفسهم في إقليم ما عنه في إقليم آخر وأن العرب غيروا أشكال الأرقام فجعلوها مميزة عن غيرها في الهند.
وما نخلص له مما أسلفناه أن الأرقام العربية سواء الخوارزمية (١.٢.٣)، أو الغبارية (1.2.3) كلاهم ذو أصل هندي في نظامهم العشري (من 0 إلى 9) وليس في شكلهم الذي طوره العالم محمد الخوارزمي وهذا مشهود به كما صرح ابن صاعد الأندلسي (1068م).
ثانيا : سبب الإنتشار في الأندلس والمغرب
إخترع الخوارزمي الأرقام العربية الغبارية كما هو الشأن للخوارزمية، لكنها لم تحظ بانتشار واسع في المشرق العربي، وبخلافه لاقت استحسان العرب في الأندلس والمغرب العربي، ومن هناك انتشرت إلى أوروبا، ثم انتشرت في أنحاء العالم كله على الشكل التالي ،1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9.
وعن سبب شيوع الأرقام الغبارية العربية في هذه المنطقة فهو يرجع للعداء الذي كان قائما بين الأمويين العباسيين، فكما يعلم الجميع فان الاندلس كانت تحت الحكم الأموي المعادي للعباسيين وكل شيء يمكن أن يكون مختلف عن بغداد يتم الترويج له ليس الارقام فقط بل حتى الخط العربي ونوع الزخارف والعمارة إلخ.
_______