الحكيم أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي هو أكبر فلاسفة الحضارة الإسلامية. ويعرف بالمعلم الثاني لدراسته كتب أرسطو -المعلم الأول- وشرحه لها، وعلى يده وصلت الفلسفة الأرسطوطاليسية إلى أقصى ما وصلت إليه من ازدهار.
ولد بفاراب بتركستان ، وتلقى تعليمه الأول في كل من فاراب وبخارى وكان يجيد اليونانية وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. ثم انتقل الى العراق وأكمل تعليمه العالي في بغداد ، وتعلم العربية هناك حتى أتقنها. ثم بدأ بتعلم الفلسفة والمنطق على يد أبو بشر متى بن يونس الفيلسوف المشهور الذي كان يجتمع في حلقته كل يوم المئات من الطلبة. ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على دراسة هذا العلم والتحصيل له إلى أن برز فيه وفاق أهل زمانه، وألف ببغداد معظم كتبه.
ثم سافر وتتقل ما بين حران ومصر والشام، وصادق سيف الدولة الحمداني في حلب حيث لمع اسمه واحتل مكانة بارزة بين العلماء والأدباء والفلاسفة.
درس الفارابي جميع كتب أرسطو وبذ جميع الفلاسفة في تحقيقها وشرح غموضها بعبارات سهلة وإشارات لطيفة. ويقال إنه وُجد ” كتاب النفس ” لأرسطو وعليه مكتوب بخط الفارابي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة. ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت ” السماع الطبيعي ” لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته.
من أهم خصائص فلسفة الفارابي أنه حاول التوفيق بين الدين والفلسفة من جهة، وبين فلسفتي أرسطو وأفلاطون من جهة أخرى ، كما أنه أدخل مذهب الفيض في الفلسفة الإسلامية ووضع بدايات التصوف الفلسفي، ومن إبداعاته في علم المنطق تقسيمه له إلى قسمي التخيل(الأفكار) والثبوت (البرهان).
على أن آراء الفارابي الفلسفية لم تخل من ضلالات وانحرافات عقدية، حتى أن الإمام الغزالي كفره بسبب بعضها، ووصفه الإمام الذهبي بأنه (شيخ الحكمة … له تصانيف مشهورة من ابتغى الهدى منها ضل وحار).
ولقد كان الفارابي عالما موسوعيا له إسهامات مهمة في شتى العلوم كالرياضيات والطب والفيزياء، ومن أهم إنجازاته في الفيزياء إشارته إلى وجود الفراغ، وقد ذكر الفارابي نظرية في الجاذبية الأرضية سبق بها العالم نيوتن بألف عام مما أدهش علماء الغرب وجعلهم يتساءلون عن سر هذا التشابه بين آراء الفارابي ونيوتن.
كمااهتم بأفكار ارسطو في الفيزياء والجويات (علم الارصاد الجوية).
وبرز أيضا في علم الموسيقى وفي (كتاب الموسيقى ) أورد شروحا وافية إلى جانب ابتكاراته في الأنغام والإشارات الموسيقية واختراعاته في الآلات، ويروى أن الآلة المسماة القانون من وضعه، ولعله أخذها عن الفرس فوسعها وزادها إتقانا فنسبها الناس إليه.
ويعد الفارابي أول من عرف علاقة الرياضيات بالموسيقى فقد كانت رسالته فيها النواة الأولى لفكرة اللوغارتم كما جاء في كتاب “تراث الإسلام”، حيث يقول كارا دي فو :أما الفارابي الأستاذ الثاني بعد أرسطو وأحد أساطين الأفلاطونية الحديثة ذو العقلية التي وعت فلسفة الأقدمين، فقد كتب رسالة جليلة في الموسيقى وهو الفن الذي برز فيه، نجد فيها أول جرثومة لفكرة النسب (اللوغارتم)، ومنها نعرف علاقة الرياضيات بالموسيقى.
وتؤكد زغريد هونكه الفكرة نفسها حين تقول : إن اهتمام الفارابي بالموسيقى ومبادئ النغم والإيقاع قد قربه قاب قوسين أو أدنى من علم اللوغارتم الذي يكمن بصورة مصغرة في كتابه (عناصر فن الموسيقى).
وقد ألف سبعة كتب في الموسيقى وفن الشعر منها أيضا (المدخل إلى صناعة الموسيقى) . ولقد ترك الفارابي تراثا ضخما وصنف اكثر من مائة مؤلف من أشهرها (آراء المدينة الفاضلة) الذي هو إسهام مبكر في ربط علم الاجتماع بالعلوم السياسية. وتتجلى أهم إسهاماته العلمية في كتابه (إحصاء العلوم) وهو كتاب متميز في مجاله؛ وضع فيه المبادئ الأساس للعلوم وتصنيفها، حيث قسم العلوم إلى مجموعات وفروع وبين مواضيع كل فرع وفوائده.
ومن كتبه في علوم الحياة: (تحصيل السعادة)، (سياسة المدينة)، (أصل العلوم). ومن أهم رسائله في علوم الحياة: (علم النفس) ، (الحكمة)، (أسماء العقل)، (فصوص الحكمة) الذي يعد مرجعا للدارسين في جامعات العالم وما زال يدرس في بعض الجامعات الشرقية.
وله في الفيزياء: (المقالات الرفيعة في أصول علم الطبيعة).
وفي الطب: (فصل في الطب) ، (علم المزاج والأوزان)، (المبادئ التي بها قوام الأجسام والأمراض).
وفي الرياضيات والهندسة: (المدخل إلى الهندسة الوهمية) و(الأسرار الطبيعية في دقائق الأشكال الهندسية) .
وفي الفلك: ( تعليق في النجوم ) و مقالة (الجهة التي يصح عليها القول في أحكام النجوم)، وقد رفض صناعة التنجيم، وأظهر فساد علم أحكام النجوم في رسائل ومن أهمها رسالته العلمية (النكت فيما لا يصح من أحكام النجوم).
وله أيضا مقالة في صناعة الكيمياء.
وقدم في المنطق خمسا وعشرين رسالة، وكتب أحد عشر شرحا على منطق أرسطو، وسبعة شروح أخرى على سائر مؤلفات أرسطو، ووضع أربعة مداخل لفلسفة أرسطو، وخمسة مداخل للفلسفة عامة، وعشر رسائل دفاعا عن أرسطو وأفلاطون وبطليموس وإقليدس، وخمسة عشر كتابا في ما وراء الطبيعة،
منها:
الحروف، الألفاظ المستعملة في المنطق، القياس ، التحليل ، الأمكنة المغلطة ، الجدل ،العبارة ، المقولات . الفصول الخمسة لإيساغوجي ، البرهان .
ومن كتبه أيضا : شرح كتاب المجسطي في علم الهيئة لبطليموس، وشرح المقالتين الأولى والخامسة من كتاب إقليدس .
وقد نقلت كتبه إلى اللاتينية في العصور الوسطى، وطُبعت في باريس سنة (1638م)، فكان لها أثر فلسفي عظيم على أوربا. وكان يعرف هناك باسم (Alpharabius).
لقد ناهز الفارابي الثمانين عاما من عمره كرسها للعلم والفلسفة والفنون ومات أعزبا، وقد كان يميل إلى الانفراد بنفسه لا يجالس الناس، وكثيرا ما كان يأوي إلى الطبيعة حيث يؤلف كتبه ويتردد عليه تلاميذه، وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم، وكان قانعا بها. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بدمشق.