في عالم يتصارع فيه الجميع ضد الجميع للفوز بمتع الدنيا الفانية، يختار فئام من الناس أن ينتصروا لروحهم في خضم هذا الصراع المهول مع الرأسمالية المادية التي تكتسح الأخضر واليابس، لا يجدون شهرا أنسب لهذه المهمة من شهر رمضان المعظم حيث تكتسح الأجواء الروحانية كل قطر، فيجد المرء المسلم سهولة في التقرب لمولاه سبحانه،ويتردد على بيت الله فيسمع كلام الله ويرتل القرآن الكريم، فيعلم الطريق المستقيم ويهتدي بنور ربه العظيم، فيخالف أصحاب الجحيم، وليته يظل دائما يتحلى بهذا السلوك الإيماني المتزن، فيقبل على إصلاح سريرته وعلانيته، ويتعلم أساسيات دينه وما لا يسعه جهله، فيغدو بعد ذلك مسلما يقف على أرضية إيمان صلبة لا تزعزع عقيدته شبهة، ولا تهزه شهوة طائشة،فيكون خليفة لله عن بينة.
سنتطرق لموضوعنا وفق التصميم التالي:
تمهيد
-الروحانيات في زمن طغيان الماديات
-كيف السبيل للوصول للتزكية الروحية؟
الروحانيات في زمن طغيان الماديات
كنت قد تحدثت قبل سنوات قليلة في مقالين عن مصطلحين مهمين وهما :”أهل كهف معاصرون” و “الأشعث الأغبر” ولم أتركهما منذ كتبت عنهما، فنحن فعلا نحتاج أن نتأسى بأهل الكهف في فرارهم بدينهم وتخفيهم عن الناس! ولو بالتخفي المعنوي، فليس بالضرورة أن تنتقل للعيش في كهف بعيدا عن الناس، ولكن أن تعتزل الناس جزئيا أمر مطلوب ومرغوب في زمن الناس هذا، حيث تسود الغيبة والنميمة في المجالس، أما الحسد والتباغض فقد أضحى ميزة أهل الزمان الحاضر، فلن يرغب أحد أن تفوته علما وفهما، ولا مالا وحسنا! وكأني به يرفض توزيع الله للنعم بين عباده فينتفض على حكمة الله!
لذلك حري بالمؤمن أن لا يشارك حياته الخاصة مع الناس، ويحرص على التقليل من الاختلاط بهم، فذلك أسلم لإيمانه، لأننا نعيش في نهاية الزمان، في هذه الفترة يتغير قلب المرء بين عشية وضحاها، بين صباح ومساء يخرج من الإيمان أفراد ويدخل آخرون.
سيمكن الكهف المعنوي المسلم من استرداد روحانيه الضائعة داخل ركام المادة، سيزكي روحه، سيحليها بالفضائل ويخليها من الرذائل،سيكون أنذاك امتداد للنبي صلى الله عليه وسلم في أسلوب عيشه، وطهارة قلبه ونقاء سريرته.
أما الأشعث الأغبر فهو وإن كان الناس لا يعيروه أي اهتمام بل وفي أحايين كثيرة يزدرونه، فإنه عند الله وجيها، فلا يهم ملبسك الفاخر وجمال سحنتك، بل ما يهم هو قلبك الصافي الطاهر،إيمانك الصلب، علمك الواسع، شخصيتك القوية والمدافعة عن الحق ولو بالقلب ، وحتى ولو امتلكت كل متع الحياة وكنت غنيا حد الفحش، فازهد رحمك الله في الدنيا واجعلها في يدك لا في قلبك، وليكن رضا مولاك سبحانه هو الغاية والقصد، كما قال الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب
إن صح منك الود فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب
كيف السبيل للوصول للتزكية الروحية؟
لا نحقق التزكية الروحية بوصفة سحرية، فنتحول من أشرار لأخيار، ومن فاسدين لصالحين، إنما نحتاج أن نعرف المعلوم من الدين بالضرورة أي ما لا يسع المسلم جهله من تعاليم دينه، فلن يحقق التزكية الروحية شخص لا يفقه حتى النزر اليسير من الإسلام، ولن يعرف حلاوة الإيمان من لا يعرف خالقه حق المعرفة، ومن هنا كان لزاما أن يتسلح المسلم بمعرفة روحية تجعله يسمو بروحه وترفعه أخلاقيا، فلا تزكية مع وجود الشرور الأرضية كالحسد والحقد والبغضاء، هذه عراقيل نحو الارتقاء الروحي والأخلاقي،ولا تزكية أيضا دون خلوة مع الله، وطلب العون منه و الاستغاثة به، ففي تلك الخلوة تتعاهد القرآن الكريم وتناجي الرحمن الرحيم، وتقرأ سنة النبي الآمين عليه الصلاة وأزكى التسليم، كما يجب عليك أيها المسلم الساعي نحو التزكية الروحية أن تراقب حالك في الخلوات والجلوات، وأن تكون رقيبا على نفسك، حسيبا عليها حتى لا تهوي بك في الدركات،ومتى أخطأت سارع بالتوبة والإنابة ولا يمنعنك الشيطان وشرور الإنسان من أن تعيش بإحسان بإحسان.